فصل: فصل في حرمة القتال في الشهر الحرام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{فأولئك حبطت أعمالهم} أي بطلت أعمالهم {في الدنيا والآخرة} وهو أن المرتد يقتل وتبين زوجته منه، ولا يستحق الميراث من أقاربه المؤمنين ولا ينصر إن استنصر ولا يمدح ولا يثنى عليه ويكون ماله فيئًا للمسلمين هذا في الدنيا، ولا يستحق الثواب على أعماله ويحبط أجرها في الآخرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فصل في حرمة القتال في الشهر الحرام:

اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال: حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا على سبيل الدفع، روى جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال نعم، قال أبو عبيد: والناس بالثغور اليوم جميعًا على هذا القول يرون الغزو مباحًا في الشهور كلها، ولم أر أحدًا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز.
والحجة في إباحته قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام، والذي عندي أن قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فردًا واحدًا، ولا يتناول كل الأفراد، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقًا في الشهر الحرام، فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه. اهـ.

.فصل في وجوه الصد عن سبيل الله:

أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه:
أحدها: أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام.
وثانيها: صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام.
وثالثها: صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت، ولقائل أن يقول: الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش، وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة، ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في معلوم الله تعالى كان كالواقع، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلًا للرسل، مستحقًا للعبادة، قادرًا على البعث. اهـ.

.فصل في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته:

قال ابن عاشور:
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلاّ ما لو فعله في الكفر أخذ به. وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة شرطًا ههنا، لأنه عَلَّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية، ومن أَشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين. اهـ.
يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعًا فقوله: {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} جواب لقوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه}. وقوله: {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} جواب لقوله: {فيمت وهو كافر}، ولعل في إعادة {وأولئك} إيذانًا بأنه جواب ثان، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفى فيها بالأدلة الظنية، فإذا كان الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأَنه دليل ظني، وغالب أدلة الفروع ظنية، فأما في أصول الاعتقاد فأخَذَ من كل آية صريحَ حكمها، وللنظر في هذا مجال، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِكيم بن حزام «أسْلَمْتَ على ما أسلمتَ عليه من خير» فهل يكون المرتد عن الإسلام أقلَّ حالًا من أهل الجاهلية؟ فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خُلُو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مثل قُرة بن هبيرة العامري، وعلقمة بن عُلاثة، والأشعث بن قيس، وعيينَةَ بن حصن، وعَمْرو بن معديكرب، وفي شرح القاضي زكريا على ألفية العراقي: وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مُسلمًا ثم ارتدَّ ثم أسلَم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حُلولو في شرح جمع الجوامع ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصَحِبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وكانت هذه الآية من دلائل النبوة، إذا وقع في عام الردة، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حيًا، فلولا هذه الآية لأَيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.
وقد أشار العطف في قوله: {فيمت} بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذٍ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلًا على وجوب قتل المرتد.
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قُتل كافرًا وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلًا أو امرأة، وقال أبو حنيفة في الرجل مثلَ قولهم، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق، وقال أصحابه تحبس حتى تُسلم، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمرو وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي يقتل المرتد ولا يستتاب، وقيل يستتاب شهرًا.
وحجة الجميع حديث ابن عباس مَن بدل دينه فاقتلوه وفعلُ الصحابة فقد قاتل أبوبكر المرتدين وأحرق علي السبائيَّة الذين ادَّعَوْا ألوهية عليّ، وأجمعوا على أن المراد بالحديث مَن بدل دينه الذي هو الإسلامْ، واتفق الجمهور على أن {مَنْ} شاملة للذكر والأنثى إلاّ من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شُبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تُقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنَهي رسول الله عن قتل النساء فخصوا به عمومَ مَن بَدَّل دينه، وهو احتجاج عجيب، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد، والمرأةُ من شأنها ألا تقاتل، فإنه نهي أيضًا عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء: إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل؟
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطال الكفر فقالا: يقتل ولا تقبل توبته إذا أُخذ قبل أن يأتي تائبًا.
ومن سبَّ النبي قُتِل ولا تُقبل توبته.
هذا، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين؛ والخروجُ من العقيدة وتركُ أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصًّا أو ضمنًا فالنص ظاهر، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلاّ عن كافر مثل السجود للصنم، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها.
وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، أي ما كان العلم به ضروريًا قال ابن راشد في الفائق: «في التكفير بإنكار المعلوم ضرورةً خلاف». وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضًا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئًا زاجرًا مثل توقع الموت، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام. اهـ.

.قال السعدي:

الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ، لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها، تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم، كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل، لسرية عبد الله بن جحش، وقتلهم عمرو بن الحضرمي، وأخذهم أموالهم، وكان ذلك- على ما قيل- في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين، قال تعالى في بيان ما فيهم: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله، وفتنتهم من آمن به، وسعيهم في ردهم عن دينهم، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام، والبلد الحرام، الذي هو بمجرده، كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: أهل المسجد الحرام، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم أحق به من المشركين، وهم عماره على الحقيقة، فأخرجوهم {مِنْهُ} ولم يمكنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} في الشهر الحرام، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة، في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك، ساعون بما أمكنهم، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.
وهذا الوصف عام لكل الكفار، لا يزالون يقاتلون غيرهم، حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا، أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين بذلوا الجمعيات، ونشروا الدعاة، وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس، لجذب الأمم إلى دينهم، وتدخيلهم عليهم، كل ما يمكنهم من الشبه، التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى، الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام، واختار لهم دينه القيم، وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره، ويجعل كيدهم في نحورهم، وينصر دينه، ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار، كما صدقت على من قبلهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
ودلت الآية بمفهومها، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام، أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة. اهـ.
موعظة:
أحسن الحسنات التوحيد لأنه أس الكل ولذلك لا يوزن، وجميع الأعمال الصالحة يزيد في نور الإيمان. فعليك بالطاعة والحسنات والوصول إلى المعارف الإلهية فإن العلم بالله أفضل الأعمال ولذلك لما قيل يا رسول الله أى الأعمال أفضل قال العلم بالله فقيل نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل وذلك إنما يحصل بتصفية الباطن مع صقيل التوحيد وأنواع الأذكار ولا يعقلها إلا العالمون. اهـ.